فصل: تفسير الآية رقم (35):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير آيات الأحكام



.تفسير الآية رقم (35):

قال الله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (35)}.
سبق هذه الآية بيان خطر القتل والفساد وحكمهما، والإشارة إلى الغفران للتائبين، فكان من المناسب أن يأمر الله المؤمنين أن يتقوه في كل ما يأتون وما يذرون، فيتركوا المعاصي ومن جملتها القتل والفساد، ويفعلوا الطاعات ومنها السعي في إحياء النفوس، ودفع الفساد، والمسارعة إلى التوبة والاستغفار. فقال جلّ شأنه: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ}.
ثم قال: {وَابْتَغُوا} أي اطلبوا لأنفسكم {إِلَيْهِ} أي إلى ثوابه ورضاه {الْوَسِيلَةَ} أي افعلوا الطاعات، واتركوا ما نهاكم عنه، فذلكم وحده هو الطريق المقرّبة من رضاه، الموصلة إلى ثوابه. والوسيلة فعلية بمعنى ما يتوسل به، أي يتقرب، وليست مصدرا، ولذا تعلّق بها ما قبلها، وهو (إليه).
قال العلامة أبو السعود: ولعلّ المراد بها الاتقاء المأمور به، فإنّه ملاك الأمر كله، كما أشير إليه، وذريعة لنيل كل خير، ومنجاة من كل ضير. فالجملة حينئذ جارية مما قبلها مجرى البيان والتأكيد، أو مطلق الوسيلة وهو داخل فيها دخولا أولياء.
وقيل: الجملة الأولى أمر بترك المعاصي، والثانية أمر بفعل الطاعات.
ولما كان فعل الحسنات وترك السيئات شاقا على النفس الداعية إلى اللذات الحسية، المخالفة للعقل الداعي إلى الفضائل أردف الله تعالى هذا التكليف بقوله: {وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}.
قال الإمام فخر الدين: وهذه الآية آية شريفة مشتملة على أسرار روحانية، ونحن نشير هاهنا إلى واحد منها، وهو: أن من يعبد الله تعالى فريقان: منهم من يعبد الله لا لغرض سوى الله، ومنهم من يعبده لغرض آخر، والمقام الأول هو المقام الشريف العالي، وإليه الإشارة بقوله: {وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ} أي في سبيل عبوديته وطريق الإخلاص في معرفته وخدمته، والمقام الثاني دون الأول، وإليه الإشارة بقوله: {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} والفلاح اسم جامع للخلاص من المكروه، والفوز بالمحبوب.

.تفسير الآيات (38- 39):

قال الله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما جَزاءً بِما كَسَبا نَكالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38) فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (39)}.
أوجب الله تعالى في الآية السابقة قطع الأيدي والأرجل عند أخذ المال على سبيل المحاربة، وبيّن في هذه الآية أنّ أخذ المال على سبيل السرقة يوجب القطع أيضا، وإن كان بينهما اختلاف ما.
قيل: نزلت هذه الآية في طعمة بن أبيرق حين سرق درع جار له، يدعى قتادة بن النعمان في جراب دقيق، به خرق، وخبأها عند زيد بن السمين اليهودي، فتناثر الدقيق من بيت قتادة إلى بيت زيد، فلما تنبه قتادة للسرقة التمسها عند طعمة فلم توجد، وحلف ما أخذها، وما له بها علم، ثم تنبهوا إلى الدقيق المتناثر، فتتبعوه حتى وصل إلى بيت زيد، فأخذوها منه، فقال: دفعها إليّ طعمة، وشهد ناس من اليهود بذلك، وهمّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يجادل عن طعمة، لأنّ الدرع وجد عند غيره، فنزل قوله تعالى: {وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ} [النساء: 107] ثم نزلت هذه الآية لبيان حكم السرقة، وفرّ طعمة، ومات أثناء فراره.
{وَالسَّارِقُ} مبتدأ خبره محذوف، والمعنى حكم السارق والسارقة مما يتلى عليكم، وقوله: {فَاقْطَعُوا} جملة مبينة لحكمهما، فهما جملتان، ويحتمل أن تكون جملة {فَاقْطَعُوا} خبرا عن المبتدأ، وحسّن اقترانها بالفاء أنّ الألف واللام في المبتدأ قائمة مقام الاسم الموصول، وخبره يقترن بالفاء كثيرا، خصوصا إذا روعي أنه جزاء، والجزاء يقترن بالفاء.
ولما كانت السرقة معهودة كثيرا من النساء كالرجال صرّح بالسارقة للزجر، ومزيد العناية بالبيان، وإن كان المعهود إدراج النساء في الأحكام الواردة في شأن الرجال.
والسرقة في اللغة: أخذ المال مطلقا في خفاء وحيلة، ولكنه ورد عن النبي صلّى الله عليه وسلّم ما يبيّن أنّ قطع الأيدي لا يكون في مطلق السرقة، بل في سرقة شخص معيّن مقدارا معينا من حرز المثل، ولذلك عرف الفقهاء السرقة بأنها: أخذ العاقل البالغ مقدارا مخصوصا خفية من حرز بمكان، أو حافظ، ودون شبهة.
أما العقل والبلوغ فلأنّ السرقة جناية، وهي لا تتحقق دونهما.
وأما المقدار فقال أبو حنيفة وأصحابه والثوري: لا قطع إلا في عشرة دراهم فصاعدا، أو قيمتها من غيرها، وروي عن الصاحبين أنه لا قطع إلا فيما يساوي عشرة دراهم مضروبة.
وقال مالك والشافعي والأوزاعي: لا قطع إلا في ربع دينار.
حجة الحنفية ما رواه عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا قطع فيما دون عشرة دراهم».
وما روي عن عبد الله بن مسعود وابن عباس وابن عمر وأيمن الحبشي وأبي جعفر وعطاء وإبراهيم من أنهم كانوا يقولون: لا قطع إلا في عشرة دراهم.
وحجة المالكية والشافعية: ما روي عن عائشة رضي الله عنها أنّها قالت: «تقطع يد السارق في ربع دينار فصاعدا» وما روي عن عائشة أيضا من أنه عليه الصلاة والسلام قال: «لا تقطع يد السّارق إلا في ربع دينار فصاعدا» وهذا القول منقول عن أبي بكر وعمر وعثمان وعلي.
وإذا لوحظ أن الحدود تدرأ بالشبهات، وأنّ الاحتياط أمر لا يجوز الإغضاء عنه، وأنّ الحظر مقدّم على الإباحة أمكن ترجيح مذهب الحنفية، لأنّ المجنّ المسروق في عهده عليه الصلاة والسلام الذي قطعت فيه يد السارق، وهو الأصل الذي تقطع في مثله يد السارق قدّره بعضهم بثلاثة دراهم، وبعضهم بأربعة، وبعضهم بخمسة، وبعضهم بربع دينار، وبعضهم بعشرة دراهم، والأخذ بالأكثر أرجح، لأنّ الأقل فيه شبهة عدم الجناية، والشبهة تدرأ الحدود، ولأنّ التقدير بالأقل يبيح الحد في أقل من العشرة، والتقدير بالعشرة يحظر الحد فيما هو أقل منها، والحاظر مقدّم على المبيح.
فالاحتياط في عقوبة القطع يقضي بأنّ اليد لا تقطع إلا في سرقة عشرة دراهم فما فوقها.
وأما اعتبار الحرز، فلما ورد من أنه عليه الصلاة والسلام سئل عن حريسة الجبل فقال: «فيها غرامة مثلها، وجلدات نكالا، فإذا آواها المراح، وبلغ ثمن المجن، ففيها القطع».
ولما ورد من أنه عليه السلام قال: «ليس في الثمر المعلّق قطع حتى يؤويه الجرين، فإذا آواه الجرين ففيه القطع إذا بلغ ثمن المجن».
ومنه يعلم أنّ الإحراز شرط في القطع.
والحرز قد يكون بما بني للسكنى وحفظ الأموال، ومثله المضارب والخيم والفسطاط مما يسكن الناس فيه، ويحفظون به أمتعتهم.
وقد يكون الحرز بالحافظ في الصحراء والمساجد والرحاب والطرقات أما النوع الأول من الحرز فهو ظاهر، وأما الثاني فالأصل في كون الحافظ حرزا حديث صفوان بن أمية حين دخل المسجد ونام فيه، وتوسّد رداءه، فاستل اللص الرداء من تحت رأسه، واستيقظ صفوان، فأدرك اللص وساقه إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأمر عليه الصلاة والسلام بقطعه، فقال صفوان: لم أرد هذا يا رسول الله، هو عليه صدقة.
فقال عليه الصلاة والسلام: «فهلا قبل أن تأتيني به».
وأما اعتبار عدم الشبهة، فلما روي واشتهر من قوله عليه الصلاة والسلام: «ادرؤوا الحدود بالشبهات ما استطعتم».
فلا يقطع من سرق من مال له فيه شركة أو سرق من مدينة مثل دينه، ولا يقطع العبد إذا سرق من مال سيده، ولا الأب من مال ابنه، وما أشبه ذلك لوجود الشبهة، ولا قطع معها.
وتثبت السرقة بالإقرار مرّة، وبشهادة رجلين على السرقة للقطع، فإن شهد رجل وامرأتان على السرقة لا تقبل للقطع، ولكنّها تقبل لضمان المسروق، وهذا مذهب الحنفية والمالكية الشافعية.
وإطلاق السارق يشمل الأحرار والعبيد، والذكور والإناث، والمسلمين والذميين.
وفي قوله: {فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما} مقابلة الجمع بالجمع، وهي تقتضي القسمة آحادا، فيدلّ التركيب على أنّ كل سارق تقطع منه يد واحدة، واليد التي تقطع هي اليمنى للإجماع على ذلك، ولقراءة عبد الله بن مسعود رضي الله عنه (فاقطعوا أيمانهما).
واليد تطلق على العضو المخصوص إلى المنكب، وعلى هذا العضو إلى مفصل الكف، كما في قوله تعالى لموسى عليه الصلاة والسلام: {وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ} [النمل: 12] والمراد ما كان إلى مفصل الكفّ، ولا خلاف بين السلف من الصدر الأول، ولا بين فقهاء الأمصار في أنّ قطع يد السارق يكون إلى مفصل الكفّ لا إلى المرفق ولا إلى المنكب، وقال الخوارج، تقطع إلى المنكب، وقال قوم: تقطع الأصابع فقط.
حجة الجمهور ما رواه محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان عن أبي هريرة رضي الله عنهم أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قطع يد السارق من الرسغ، وما روي عن علي بن أبي طالب وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما أنهما كانا يقطعان يد السارق من مفصل الرّسغ، فكان هو المعوّل عليه.
وإذا عاد السارق إلى السرقة ثانيا قطعت رجله اليسرى باتفاق الحنفية والمالكية والشافعية لما رواه ابن عباس عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قطع الرجل بعد اليد.
ولما روي عن علي وعمر أن كلا منهما كان يقطع يد السارق اليمنى، ولما عاد السارق إلى السرقة قطع كل منهما رجله اليسرى، وكان ذلك بمحضر من الصحابة، ولم ينكر على كل منهما أحد، فكان إجماعا.
ولما رواه الدارقطني من أنه عليه الصلاة والسلام قال: «إذا سرق السارق فاقطعوا يده، ثم إن عاد فاقطعوا رجله».
وإذا عاد إلى السرقة ثالثا وقف القطع عند الحنفية، فلا يقطع منه عضو بعد ذلك، ولكنّه يضمّن المسروق، ويعزّر بالحبس حتى تظهر توبته، لما روي عن علي بن أبي طالب أنه أتي بسارق للمرة الثالثة فقال: لا أقطع، إن قطعت يده فبأيّ شيء يأكل، وبأي شيء يستنجي، وإن قطعت رجله فبأيّ شيء يمشي، إني لأستحيي من الله، ثم ضربه بخشبة وحبسه.
وروي مثل ذلك عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وعند المالكية والشافعية: تقطع يده اليسرى، وإن عاد إلى السرقة رابعا تقطع رجله اليمنى.
وإذا كانت العين المسروقة قائمة، وردّت إلى مالكها، وقطعت يد السارق ثم عاد إلى سرقتها مرّة ثانية فلا يقطع فيها عند الحنفية، وأما المالكية والشافعية فيقولون بالقطع، وهو رواية عن أبي يوسف لإطلاق قوله عليه الصلاة والسلام: «فإن عاد فاقطعوه».
تمسّك الحنفية بما يؤخذ من قوله عليه الصلاة والسلام: «لا غرم على السارق بعد ما قطعت يمينه».
فإنّ عدم ضمان المال يدلّ على أنّ المال أصبح غير معصوم في حق السارق بعد قطع يده، لأنّه لو كان معصوما مع قطع يده لوجب ضمانه، وحيث لم يجب الضمان تبيّن أن المال غير معصوم في حقه، فإذا كانت العين المسروقة قائمة، وردت إلى المالك، فلا نزاع في أنّ العصمة عادت إليها، ولكن مع هذا لا زالت شبهة سقوط العصمة قائمة، فأشبهت المباح في حقه، فلا تقطع يده في سرقتها ثانية فإنّ الحدود تدرأ بالشبهات.
وإذا قطعت يد السارق، وكانت العين المسروقة قائمة وجب ردها إلى صاحبها، وإذا كانت هالكة أو مستهلكة فلا ضمان عليه عند الحنفية، وقال المالكية: يضمّنها إن كان موسرا، ولا شيء عليه إن كان معسرا.
وقال الشافعية: يضمنها مطلقا، أما ردها وهي قائمة فلما ورد من أنه عليه الصلاة السلام ردّ رداء صفوان إليه حين قطع يد السارق، وأما عدم الضمان عند عدمها فلقوله عليه الصلاة والسلام: «لا غرم على السارق بعد ما قطعت يمينه».
وحجة القائلين بالضمان قياسه على سائر الأموال الواجبة، فإنّهم أجمعوا على رد العين المسروقة إذا كانت موجودة، وهو يستلزم أنها إذا لم تكن موجودة تكون في ضمانه، كما في سائر الأموال الواجبة، ترد بنفسها إن كانت قائمة، ويرد مثلها إن كانت هالكة، ويدلّ على ذلك أيضا ما ورد من قوله عليه الصلاة والسلام: «على اليد ما أخذت حتى تؤدي».
وقوله: {جَزاءً} مفعول له، أو مصدر مؤكد لفعله الدال عليه قوله: {فَاقْطَعُوا} أي فجازوهما جزاء وقوله: {بِما كَسَبا} متعلق (بجزاء) على الإعراب الأول، وبقوله: {فَاقْطَعُوا} على الإعراب الثاني، و(ما) مصدرية، أي بسبب كسبهما، أو موصولة، أي بسبب الذي كسباه.
وقوله: {نَكالًا} مفعول له للإشعار بأنّ القطع للجزاء. والجزاء للنكال فيكون مفعولا له متداخلا كالحال المتداخلة.
والنكال: الإهانة والتحقير للمنع من العودة.
وقوله: {مِنَ اللَّهِ} متعلق بمحذوف صفة لنكالا.
{وَاللَّهُ عَزِيزٌ} أي غالب في تنفيذ أوامره، يمضيها كيف يشاء من غير منازع ولا ممانع، وهو {حَكِيمٌ} في تشريعه، لم يشرع إلا ما فيه المصلحة، فمن تاب من السرّاق من بعد ظلمه بما وقع منه من السرقة، وأصلح في توبته بأن تكون التوبة عند الجمهور، وقيل: تسقطه، لأن ذكر الغفور الرحيم يدل على سقوط العقوبة، والعقوبة المذكورة هي القطع.